الحوار وخلاف الرأي في منهـج الإمـام حسـن البنـا
المجدد هبة من الله لعباده، يبعثه بين الفترة والفترة لهذه الأمة من بين
أبنائها مقتفياً أثر رسول الله ص ليجدد لها أمر دينها، وينفض عنها غبار
السنين والظروف، ويغيِّر أحوال الناس.
وإذا نظرنا في شخصية الإمام حسن البنا ـ رحمه الله ـ وما فيها من مواصفات
حقيقية، وإذا أردنا أن نقوّم هذه الشخصية في الواقع البيِّن، نرى أن هذا
الإنسان هو مجدد قرنه، وذلك لما اتصف به من صفات دعوية، وما نادى به من
مبادئ للإسلام وتعاليمه، فكان رحمه الله صورة صادقة ومعبرة لهذه المبادئ
التي يدعو إليها.
ويمكن لنا من خلال النظر في سلوك البنا ـ رحمه الله ـ في دعوة الناس إلى
دين الله أن نقول إنه تمثّل المرونة في الدعوة مع الآخرين، حيث صهر مبادئ
دعوته وفكرته ثم أعاد صياغتها من جديد صورة أخرى من معدنها الأصلي نفسه دون
تغيير لجوهر هذه المعادن، وبما يتناسب مع معطيات العصر، وعلّم هذا أتباعه
ولقنهم أصول الدعوة وتعاليمها.
وحين بدأ وعي البنا يتفتح عما يجري في عالمه الإسلامي، وجد أن هناك التعصب
المذهبي وبروز الطائفية، وأفكاراً في الوطنية والقومية والشعوبية،
والمناداة ببعض المبادئ الهدامة والمنحرفة.
وكل هذه الأمور أدت إلى فرقة الأمة وتشتت كلمتها وضعف قوتها والتبعية
للغير، عند ذلك رأى البنا أن الوسيلة في إنهاء هذه الظواهر في المجتمع
المسلم والتخلص منها هي الدعوة إلى وحدة الكلمة ووحدة القلوب والعمل مع
الآخرين على تخليص الأمة من أسباب الضعف والشتات والتبعية، وهو مطلب شرعي
حث عليه الإسلام، وطالب أتباعه بالتمسك به: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا
شيعا لست منهم في شيء (الأنعام: 159)، وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم
فاتقون 52 (المؤمنون).
وانطلاقاً من مبدأ التعاون على الخير ودرء المفاسد عن هذه الأمة: وتعاونوا
على البر والتقوى" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (المائدة: 2) سلك البنا
سبيل الحوار الهادئ البنّاء مع مخالفيه في الرأي أياً كانت مواقفهم وآراؤهم
أو حتى عقائدهم وأديانهم متخذاً في وجهته هذه "خلاف الرأي لا يُفسد للود
قضية" متحلياً بكل الصفات التي تحقق الهدف في هذا الجانب.
فكان ـ رحمه الله ـ يبادر الآخرين ويلتقيهم ويحاورهم بعيداً عن أي خلفية
عدائية في نفسه، وعن أي حساسية بسبب الاختلاف معهم، سليم الصدر معافى من
الحقد والضغينة، متسامحاً مع قبيله ليّنـاً مع محاوره، مستخدماً في ذلك
طراوة الكلام وحلاوته وحكمته، وسلامة القول واللسان وطهره، مستبعداً عن
تفكيره إقصاء الغير حين لا يكون على نهجه أو تفكيره أو عقيدته: ونزعنا ما
في صدورهم من غل (الأعراف: 43).
وإقراره ـ يرحمه الله ـ باختلاف الأفهام والعقول والقدرات والإمكانات
والمواهب، الذي يؤدي إلى اختلاف في الآراء والأحكام والمواقف، ناتج عن فهمه
لمجريات الأحداث في الصدر الإسلامي الأول، ومن ذلك:
1ـ اختلاف الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين حين استشارهم رسول الله ص
وسألهم عما يفعله بأسرى بدر، وتباين آرائهم في ذلك ثم اختار الرسول ص أحدها
وأنفذ حكمه فيه.
2 ـ اختلاف آراء الصحابة في قتال أهل الردة بعد وفاة رسول الله ص في زمن
الخليفة الأول أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ثم اتفاقهم بعد حوار مطوَّل
بينهم.
3 ـ اختلاف آرائهم في تقسيم أراضي سواد العراق زمن الخليفة الثاني أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب، وقد عولجت هذه الأمور وخلاف الرأي فيها بالحوار
المتجرد الهادف، معتمدين في حوارهم على الأدلة والبراهين من الكتاب والسنة
ومصلحة المسلمين عامة.
[/size]
وانطلاقاً من الإقرار أن اختلاف الآراء أمر طبيعي بين الناس، ومن مبدأ
الحوار الهادف المثمر البنّاء وتكريساً للمقولة "خلاف الرأي لا يُفسد للود
قضية"، وتأكيداً لأقواله وتفعيلاً لها، والانتقال إلى ميدان الفعل
والتطبيق، فقد أسس المؤسسات ووضع الأطر التنظيمية التي تساعد في هذا الحوار
سواء في داخل جماعته أو مع الآخرين أياً كانت مشاربهم وانتماءاتهم.
لجنة التقريب بين المذاهب
ومما علم عنه ـ رحمه الله ـ أنه شكّل "لجنة التقريب بين المذاهب" وأنه كان
يلتقي أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى، وكان يحاول جهده أن يوجد قاعدة
للتقارب بين هذه المذاهب، وكانت له مقولة رائعة تدل على الرغبة في وحدة
العمل الإسلامي، والبعد عن الخلاف: "لنعمل فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا
بعضاً فيما اختلفنا فيه"، وكان اهتمامه في هذا الجانب واضحاً وكبيراً لأن
العصبية المذهبية كانت سائدة في عصره، وإليك قوله في اختلاف المذاهب:
"فنلتمس العذر كل العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات ونرى أن هذا الخلاف
لا يكون أبداً حائلاً دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير
وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته، ألسنا
مسلمين وهم كذلك، وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون
ذلك؟ وألسنا مُطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟
ولماذا لا يكون رأينا مجالاً للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم
في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعوهم إلى التفاهم؟" (دعوتنــــا، ص
26).
اختلاف
ويعلل ـ رحمه الله ـ موقفه هذا من اختلاف المذاهب بقوله: "فأما البعد عن
مواطن الخلاف الفقهي فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف في الفرعيات أمر ضروري
لابد منه، إذ إن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصورها
العقول والأفهام، لهذا كان الخلاف واقعاً بين الصحابة أنفسهم ومازال كذلك،
وسيظل إلى يوم القيامة، وما أحكم الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ حين قال
لأبي جعفر وقد أراد أن يحمل الناس على الموطأ: "إن أصحاب رسول الله ص
تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة"،
وليس العيب في الخلاف ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول الناس
وآرائهم، هذه النظرة إلى الأمور الخلافية جمعت القلوب المتفرقة على الفكرة
الواحدة، وحسب الناس أن يجتمعوا على ما يصير به المسلم مسلماً كما قال زيد ـ
رضي الله عنه ـ وكانت هذه النظرة ضرورية لجماعة تريد أن تنشر فكرة في بلد
لم تهدأ بعد فيه ثائرة الخلاف على أمور لا معنى للجدل ولا للخلاف فيها"
(رسالة المؤتمر الخامس، ص 124).
ثم يؤكد على موقفه من هذا الخلاف بقوله: "والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون
سبباً للتفرق في الدين ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره ولا
مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله،
والتعاون على الوصول إلى الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم
والتعصب" (رسالة التعاليم، ص 375).
الأحزاب السياسية
وأما رأيه في الحزبية وموقفه من الأحزاب، فكان يعتقد ـ رحمه الله ـ أن
الحزبية تقوم على التعصب للرأي، وأنها سبب من أسباب الفرقة، حيث يقول: "كما
يعتقد الإخوان أن هناك فارقاً بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح
والشورى والنصيحة، وهو يوجبه الإسلام، وبين التعصب للرأي والخروج على
الجماعة والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة وزعزعة سلطان
الحكام، وهو ما تستلزمه الحزبية ويأباه الإسلام ويحرمه أشد التحريم،
والإسلام في كل تشريعاته إنما يدعو إلى الوحدة والتعاون" (رسالة المؤتمر
الخامس، ص 146).
وهو لهذا كان يناشد رؤساء الأحزاب في مصر بأن يطرحوا الخلافات الحزبية
جانباً ويعملوا يداً واحدة لصالح الأمة ومستقبلها، فيقول: "إن لي في
الحزبية السياسية آراء هي لي خاصة ولا أحب أن أفرضها على الناس فإن ذلك ليس
لي ولا لأحد" (مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين، ص 166).
ومع ما له من رأي في هذه الأحزاب كان يتعامل مع أتباعها بالحوار والتشاور
وربما بالتنسيق لمصلحة الوطن والأمة فيقول: "ونحن لا نهاجم لأننا في حاجة
إلى الجهد الذي يبذل في الخصومة والكفاح السلبي لننفقه في عمل نافع وكفاح
إيجابي وندع حسابهم للزمن معتقدين أن البقاء للأصلح فأما الزبد فيذهب جفاء
وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض (الرعد: 17)" (رسالة المؤتمر السادس، ص
215).
رؤيته للأقليات والطوائف
وأما موقفه من الأقليات والطائفية في المجتمع الإسلامي: فالبنا ـ رحمه الله
ـ في كل آرائه ومواقفه وسلوكه إنما ينهل من النبع الصافي نبع الرسالة
المحمدية ومدرستها البناءة المتميزة باللين والتسامح، وإنسانيتها العامة،
فهو يستقي مواقفه وآراءه بالنسبة لغير المسلمين من أفعال الرسول ص الذي لا
ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
فكان حسن التعامل والعلاقة مع الأقباط الذين يشاركونه العيش في بلده الذي
نشأ فيه ـ مصر الكنانة ـ حتى حدا به الأمر أن يشرك بعضهم في مؤسسات جماعة
الإخوان المسلمين، كما حدث في إشراك بعض شخصياتهم ومفكريهم في اللجنة
السياسية للجماعة ولا غرابة في ذلك، فهديه هدي محمد ص حين وصل إلى بلد
المهجر ـ المدينة المنورة ـ والتقى اليهود حيث كان يقطن قسم منهم فيها
والقسم الآخر في أطرافها، وعقد معهم العهود والمواثيق على عدم العدوان فيما
بينهم وبين المسلمين، وعلى مناصرة بعضهم بعضاً إذا حصل على المدينة عدوان
ولم يمنعه من ذلك خلاف دين ولا عدم اتباع له مع علمهم ومعرفتهم أنه رسول
الله، ولم يمنعه من ذلك خلاف رأي ولا طباع، ولم يقاتلهم ويرفع السيف في
وجوههم إلا من بعد ما نقضوا العهود والمواثيق وخانوها وحاولوا الغدر به
وبالمؤمنين.
معاملة النصارى
وكذلك معاملتـه ص للنصارى واستقباله لهم استقبالاً حافلاً حين قدموا إليه في المدينة المنورة.
"وأوصى بالبر والإحسان بين المواطنين وإن اختلفت عقائدهم وأديانهم: لا
ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن
تبروهم وتقسطوا إليهم (الممتحنة: 8)، كما أوصى بإنصاف الذميين وحُسن
معاملتهم "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" نعلم كل هذا فلا ندعو إلى فرقة
عنصرية ولا إلى عصبية طائفية" (إلى الشباب: 180 ـ 181).
ويقول أيضاً: "يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساساً لنظام الحياة
ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة، وينافي الوحدة بين عناصر
الأمة، وهي دعامة قوية من دعائم النهوض في هذا العصر، ولكن الحق غير ذلك
تماماً، فإن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها
ومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل، فلم يصدر دستوره المقدس
الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الذي لا يحتمل لبساً ولا غموضاً في
حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: لا ينهاكم الله عن الذين
لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن
الله يحب المقسطين (8) (الممتحنة)، وقد مر ذكر هذه الآية قبل قليل، فهذا نص
لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم، وأن الإسلام
قدّس الوحدة الإنسانية العامة في قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من
ذكر وأنثى" وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا (الحجرات: 13)، ثم أكد على
الوحدة العامة كذلك، فقضى على التعصب وفرض على أبنائه الإيمان بالرسالات
السماوية جميعاً في قوله تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل
إلى" إبراهيــم وإسـماعيل وإســــحاق ويعقوب والأســـباط وما أوتي موسى"
وعيسى" وما أوتي النبيون من ربهــم لا نفـــرق بين أحـــد منهم ونحن له
مسلمون136 (البقرة)" (نحو الــنــور: ص 285 ـ 286).
المصدر: مجلة المجتمع 1400
1